التصنيفات
الأقسام

خاتمة

بدء هذا المشروع في يونيو/حزيران 2014 كمدوّنة شخصية أردتُ فيها مشاركة بعض ترجماتي مع مجموعة من الأصدقاء، بل من المبالغة وصفه بمشروعٍ في بداياته. بدأَتْ بمسمى «Propaganda St» أو «شارع بروباغندا» إشارةً إلى كونِ المدونة لا تدّعي الحياد أو الموضوعية المبتذلة – تِلك المنحازة إلى الأيديولوجيا الحاكمة –، بل تسعى صراحةً إلى تغيير رأي القرّاء وإقناعهن/ـم بمنظورٍ يساريٍّ واضح.

لأكون صريحًا، لم أكن احترف الترجمة وقت بداية المدونة. ما دفعني إلى الترجمة، أو إلى الاعتقاد بأن ترجمتي صالحة وقابلة للنشر – رغم أنّه لم يسبق لي ترجمة أي مقال – هو أولُ مرّة قرأتُ فيها كتابًا مترجمًا إلى العربية. كانت الترجمة بالغة السوء، أسوء من أن تكون صالحة حتى للنشر في مدوّنةٍ شخصية، ولكن الكاتب اعتقدَ على ما يبدو، هو ودارُ النشر التي شرعنت مجزرته اللغوية، بأن الترجمة مؤهلة للطباعة والنشر.

قلتُ لنفسي وقتها: «حتى لو ما كان عندي خبرة، مستحيل تكون ترجمتي بهالسوء». ملخص القصة هو أن ترجمتي بالطبع لم تكن بذاك السوء…كانت أسوء. بل وصل سوؤها للدرجة التي جعلتني استخدمها لاحقًا لتشجيع مبتدئاتٍ ومبتدئين في الترجمة، «دام أنا وأنا كنت بهالسوء قدرت أتحسن، أكيد أنت تقدر». عملت جاهدًا على تحسين مهاراتي مع كل مقالٍ أنشره، وذلك عبر استشارة الأصحاب والقراءة أكثر في الشؤون اللغوية (ولست أنكر فضل مواضيع منتدى اللغة العربية وعلومها في «ملتقى أهل الحديث» في إثراء معرفتي اللغوية). لكنّي حتى وقت كتابة هذه الخاتمة، ما زلت غير مقتنعٍ بمستواي.

في عام المدوّنة الأول، نشرت بضعة مقالاتٍ على نحوٍ متقطع. لم تلق المدونة أي اهتمامٍ في البداية. تغير ذلك مع نشر مقال توبي ماثيسن، الهجرة، والأقليّات، والشبكات الراديكاليّة: الحركات العماليّة وجماعات المعارَضة في السعودية (1950-1975م)، في ديسمبر من العام نفسه. كنتُ وقتها انتهيت من الدراسة الجامعية لذاك الفصل وعدتُ إلى البلد لقضاء الإجازة الشتوية مع أهلي. مع الاهتمام التي بدأت تتلقاهُ المدونة، نَبَّهني بعض الأصحاب إلى إمكانيّة تحويلها إلى مشروعٍ جاد أنشرُ فيه ترجماتٍ لمقالاتٍ متعلقة بتاريخ البلد والمنطقة، وهو ما عملتُ عليه فعلًا.

اضطرني ذلك إلى إلغاء النواحي «الساخرة» من المدونة، وهي التي كنت أهدف من ورائها ألا أترك أي مجال للشك بكونها مدونة لا تهدف إلى الجديّة. هذا عنى إلغاء قسم «أجمل إحساس» للمقالات التي أكتبها (يؤسفني إشعاركم أنَّ حسَّ الدعابة لدي لم يتحسن بتحسن ترجماتي).

وفي يوليو/تموز من عام المدونة الثاني، قررت الاشتراك بالباقة المميزة. اتخذتُ هذا القرار بعد أن لاحظت الازدياد المطرد لعدد القراء بازدياد المنشورات، إذ أنَّي لم أرغب بالاستمرار بمسمّى إنجليزي. وبعد نقاشٍ قصير، استقريت على مسماها الحالي، «ما العمل؟». لسببٍ ما، لم ألاحظ وقتها أنَّ اختيار الأسئلة البلاغية للمواقع الإلكترونية لم يكن أمرًا شائعًا. مسمى المدونة – كما هو واضح – مستوحى من كرّاسة الثوري الروسي فلاديمير لينين «ما العمل؟ المسائل الملحة لحركتنا».

قد لا يليق اختياري لهذا الاسم بما وصفته بمدونة «مختصة بالترجمة»، إذ أنَّ الإجابة على «المسائل الملحة لحركتنا» تتطلب قراءةً أصلية للأوضاع المادية المحليّة، لا نقلًا لنصوصٍ طُرِحَت إجابةً على مسائل كانت ملحة لحركاتٍ في بقاعٍ أخرى من العالم (أعني بالنقل الترجمة). ولكن الاسم كان جميلًا وأضفى طابعًا حركيًّا على المدونة، وذلك كل ما يهم، أليس كذلك؟ وإن كانت المدونة لم تسأل يومًا «ما العمل؟» فلربما ساعدت بعض المقالاتِ القرّاءَ على الإجابة على اسئلتهن واسئلتهم، وذلك أقصى ما آمل.


نشرتُ في العام الأول (2014) ما مجموعه 8 مقالات، وتلقَّت 5,614 قراءة من 2,720 زائر، أما في العام الثاني نشرتُ 48 مقالًا تلقَّتْ 61,243 قراءة من 37,404 زائر. كانت هذه قفزةً هائلة بالنسبة لمدوّنة أغلبُ منشوراتها نتاجُ جهدٍ فردي، أو هكذا رأيت، كوني لم أعتقد أن المدونة ستتلقى كل هذا الاهتمام، وذلك بسبب نوع مقالاتها (تاريخية، يسارية) وطولها (معدل طول المنشور حوالي 3000 كلمة).

دفعني ذلك منذ بداية العام الثاني إلى استقطابِ عددٍ من المترجِمات والمترجِمين، ونجحت بعض الشيء في بادئ الأمر. لكن سرعان ما تبين لي أن المشكلة لا تكمن في استقطابِ المترجمِـ/ـة مرة، بل في جعل استثمار الوقت والجهد في هذه المدونة وهذا المشروع أمرًا مرغوبًا، وهو الأمر الذي لم أتمكن منه حتى نهايتها.

كانَ تركيز العام الثاني على القضايا المحلية وقضايا العالم العربي، مثل مقال أميلي لو رينار، سياسات «كشف النقاب عن المرأة السعودية»: بين المخيال ما بعد الاستعماريّ ودولة الرقابة، ومقال لانس سيلفا، المشروع الصهيوني الاستعماري. نشرنا أيضًا عددًا من المقالات المتعلقة بتاريخ نضالات بلدان الجنوب العالمي، عن غواتيمالا وبوركينا فاسو مثلًا، وهو تركيزٌ أردت الحفاظ عليه في المدونة لسببين: لنشر الوعي بوجودِ عالمٍ خارج أوروبا وأمريكا الشمالية أولًا، ولنشر الوعي بكون نضالنا ضد الهيمنة الغربية ليس استثنائيًا. هذا يعني بالضرورة أنّ نضالنا ليس في جوهره ثقافيًا، بل هو جزءٌ من تاريخٍ مستمر لنضالات بلدان الجنوب العالمي ضد الاستعمار والإمبريالية والتبعية.

ونشرنا أيضًا حفنةً من المقالات النظرية والفلسفية، مثل الفلسفة كسلاح ثوري، وهي مقابلة مع الفيلسوف الفرنسي الشيوعي الراحل لوي ألتوسير، والفصل الأول من كتاب شولاميث فايرستون جدليّة الجنس. لكنَّ الانتقال في التركيز إلى الجانب النظري لم يحصل إلّا في العام الثالث.

وأكثرُ المقالات قراءةً ذلك العام كان عنوانه – حسبما أذكر – 14 دولة أفريقية ما زالت تدفع ضرائبًا استعمارية لفرنسا، إذ تلقّى أكثر من 13 ألف قراءة. أقول حسبما أذكر لأنّي حذفت المقال لاحقًا بعدما ندمت على نشره، وذلك لعدة أسباب. أحدها هو أنّي بعد مراجعةٍ لاحقة للمقال لم أتمكن من إيجاد مصادر أخرى تبيّن صحة الادعاءات الأساسية في المقال. لكن قد يكون السبب الأهم متعلقًا بإشكالٍ شخصي في اختيار التوقيت الذي نشرت فيه مقالًا كهذا.

نَشرتُ المقال – بقصدٍ – بعد الهجمة على صحيفة شارلي إيبدو والموجة التعاطف التي تلت. لديَّ ما لدي من التحفظّات على موجة التعاطف تلك، ولكن ماذا يعني نشرُ هذا المقال في هذا الوقت بالتحديد؟ أمعنى ذلك: «نعَم نحنُ قتلنا عددًا منكم اليوم، ولكنَّ استعماركم لأفريقيا لم ينتهي بعد»؟ ما معنى أنَّ نتخذ وضعية الدفاع هنا، أن نحتاج للتبرير كما لو أن الجاني ينتمي فعلًا إلينا رغمَ أنّه في الواقع – لو كنّا في حلبةٍ سياسية واحدة – سيكون عدوًّا لنا؟ لست أعني هنا أنَّ الخطوة الصحيحة كانت لتتم عبر تغيير شعار المدونة إلى «جو سوي شارلي»، ما أعنيه هو أنَّ الخطوة بالتأكيد لا يجب أنْ تكون الردَّ بـ «ماذا عن…؟»، لا يُعالَج المَرَض بالإشارة إلى مَرَضٍ آخر قد وقد لا يكون ذا صلة.

نحن هنا نخطو خطواتٍ حذرة بين نارين: نارُ الاصطفاف مع التيارات العدمية الإسلاموية، ونارُ الاصطفاف مع العنصرية العرقية البغيضة لـ شارلي إيبدو.

تبيَّنَ لاحقًا أنَّ تلك لم تكن إلّا أولى الإشكالات.


تلقت المدونة في عامها الثالث 2016 عددًا مقاربًا من القراءاتِ والزوّار (65,305 قراءة و37,189 زائر)، بينما نشرتُ عددًا أقلَّ بقليل من المقالات (44 تحديدًا، أي أقل بأربعة مقالات من العام الذي سبقه). كان التوجه في هذا العام – كما أسلفت – نحو النصوص النظرية والفلسفية. لم أكن سعيدًا البتّة بِقلّة المحتوى النسوي في المدونة، وبالتالي عملت على ترجمة عدّة مقالات نسوية بالإضافة إلى مساهماتٍ وصلتني من مترجِماتٍ ومترجِمين.

كما في العامين السابقين، ظلت غالبية المنشورات نتيجةَ جهدٍ فردي. ولكن، ولربما لسببٍ يتعلق بفهمٍ أكبر لديهن ولديهم لما يرغب به القرّاء، كانت لمساهماتِ المترجِمات والمترجمين الآخرين الحصة الأكبر من القراءات. ولكنَّ ما ندمتُ عليه لاحقًا هو عدم تنوّع المقالات النسوية المنشورة بما فيه الكفاية، إذ أنّ جميعها تقريبًا دخلت ضمن تيار ما يسمى بالنسوية الوحدوية أو نسوية إعادة الإنتاج الاجتماعي، بمقالتين ترجمتها من تِثِي باتكاريا حول النظرية نفسها، أحدهما تعريفي والآخر على العكس من ذلك، وتلقَّت هذه المقالات والمقالات التي نُشِرَت العام السابق له اهتمامًا جديدًا مع ظهور حملة إسقاط الولاية، بالتحديد مقال أميلي لو رينار المذكور أعلاه والذي تلقى أكثر من 500 قراءة جديدة شهر يوليو/تموز، الشهرُ الذي انطلقت فيه الحملة.

كان أكثرُ مقالٍ قراءةً ذلك العام مقالٌ نسويٌّ أيضًا، وهو مقالُ نانسي فريجر الذي يحمل عنوان كيف أصبحت النسوية تخدم الرأسمالية وكيف نستعيدها. وبالرغم من تلقيه ما يزيد على 3000 قراءة، أظن أن غالبيتها كانت لأسبابٍ خاطئة. فبالرغم من محتوى المقال النسويّ والكاتبة النسوية، انتشرَ المقال في الأوساط المحافِظة بوصفه هجومًا على النسوية. كان من الواضح أن الشخصيّات المؤثرة المحافِظة التي نشرته قرأت المقال فعلًا – فبعضهم أصحبها بالتعليق «النسوية مطيّة الـ (نيو) ليبرالية»، إذ وُضِعَت «نيو» بين قوسين لتُتَجاوز – لكنهم (لربما ازدراءً لجمهورهم) لم يتوقعوا منهم إلّا قراءة تعليقهم مع العنوان.

كان ذلك أوَّل إشكالٍ فيما يتعلق بالعناوين في ذلك العام، استنتجتُ منه ضرورة تغيير العناوين بحيث لا تترك أي فرصة للمحافظين لاستخدامها بعكس غرضها الحقيقي، وهو الأمرُ الذي تكرر في السابق. أمّا الإشكالُ الثاني – والذي سأتطرق له أدناه – فصاحبته تعقيداتٌ أخرى.

الإشكالُ الثاني تعَلَّق بمنشورٍ نسويٍّ آخر. كان المنشور ترجمةً للفصل الأول من كتاب لشارون جيكوب، وعنوان الفصل: ثدي، رحم، وإمبراطورية. أتاني المقال عن طريقِ صديقٍ لي اتّفق – وفق كلامه – مع إحدى المترجِمات على ترجمة الفصل، مُضِيفًا أنّه وافق على ذلك ظنًّا منه أنّها لن تشرع فعلًا في ترجمته. لم يكن الفصل في رأيي صالحًا للنشر، لا لشيء سوى أنّه من الواضح أنَّه مقدمةٌ تطرح فيها الكاتِبة عدة أسئلة تنوي الإجابة عليها في الفصول القادمة.

وافقتُ على نشر الفصل تقديرًا للجهد الذي بذلته المترجِمة، فطوله يتجاوز خمسة آلاف كلمة، وموضوعه ليس سهل الترجمة. ولكن كان هنالك إشكالٌ آخر تعلق بالعنوان. اعتدت على تغيير العناوين بعض الشيء، وهي ممارسة لا أرى فيها إشكالًا عمومًا. أطلب في العادة رأي أصحابي في مجموعة من العناوين لاختيار أفضلها. ولكن في هذه الحالة لم أسأل إلّا هذا الصديق، وكان جوابه بتغييره إلى «المرأة والإمبراطورية». اعتقدتُ وقتها أنّه أخذ رأي المترجِمة نفسها في ذلك، إذْ أنَّ سبب التغيير واضح: عيب نكتب كلمة ثدي، نحن أناسٌ جدّيون، لا نذكر كلماتٍ لا تليق بمستوانا الثقافي الرفيع؛ ثدي، يا لها من كلمة سوقية!

من السهل عليَّ السخرية من شيءٍ والتنصل من قبولي بِتزمُّتٍ كهذا – بل وتواطئي فيه –، ولكن ذلك لا يغيّر من حقيقة كوني لم أُطِلْ الجدال في مسألة العنوان (بل لم أجادله فيها أبدًا إن لم تخنني الذاكرة) ولم أتخذ تلك الخطوة التي لا قرين لجرأتها وكسرها جميع التابوهات وأضعَ كلمة «ثدي» في عنوان مقال (وجب التنويه أنّي أقول ذلك من باب السخرية/ساركازم، إذ لا تابوهات على ذلك سوى التزمّت المحافِظ هذا). ولا يشفع لي أنّي غيّرت عنوان المقال لاحقًا إلى الأصل، بعد أن تبيّن لي أنَّ المترجِمة تفضّل العنوان الأصلي وأنَّ صديقي – على الأرجح – لم يستشرها في اقتراحه.

حاولتُ في هذا العام أيضًا العمل على مشروعٍ مصاحب للمدونة، تحويل المقالات إلى مقالات صوتية، ومن ثم الانطلاق من ذلك نحو مشروعٍ للكتب الصوتية. اتخذت قراري بناءً على هدفين ما زلت أؤمن بهما رغم فشل المشروع، كلاهما يدخلان في فهم الترجمة كَتَمْكِين: أولًا، إتاحة هذه المعلومات إلى غير القادرين على القراءة، المكفوفين تحديدًا؛ وثانيًا إتاحتها لمن لا يجدون في القراءة السبيل الأسهل للتعلم.

لا قدسية للكتاب أو النص المكتوب. بالإضافة لذلك، تختلف وسائلُ التعليم المناسبة من فردٍ لآخر، ولا أفضلية لأحدها على الأخرى. ليس النص المكتوب سوى إحدى هذه الوسائل. ولذا، أؤمن أن إتاحة الوصول لهذه المعلومات عبر وسائل تعليمية مختلفة يعني تمكين أكبر عددٍ ممكن من الناس من الحصول عليها.

ولكن المشروع فشل لسببٍ بسيطٍ جدًا (بل لربما يكون تافهًا): لستُ أتقن مخرج حرف القاف، أو لأكون دقيقًا، لا أستطيع نطقها دونَ قلقلةٍ حادة. وحتى هذه اللحظة لا أدري ما إذا كان ذلك من المبالغة في ارتفاعِ المعايير أم لا. كل ما أعرفه هو أنَّ ذلك المشروع انتهى قبل أن يبدأ.


بدأت عام 2017 وأنا محتارٌ فيما إذا كنت أرغب بإقفال المدوّنة في عيدها الثالث أم الاستمرار سنة أخرى. الأمر الأكيد والواضح وقتها كان عدم تمكّني من الاستمرار على وتيرة النشر نفسها. كان ذلك آخر فصلٍ دراسيٍّ لي في الجامعة، وصاحبته ظروفٌ صحيّة ازدادت شدّة في الفصل السابق وأثَّرت على تحصيليَ الدراسي سلبًا. إنْ كنت أرغبُ حقًا بالتخرج في ربيع 2017، وجب عليَّ تقليلُ تركيزي على المدونة.

قلَّلتُ وتيرة النشر حتى وصلت إلى مقالين في الشهر. لم أنشر في ذلك العام إلّا 20 مقالًا. نتيجةً لذلك، قلَّت القراءاتُ حتى وصلت 51,275، في ذات الوقت الذي انخفض فيه عدد الزوّار (30,541). لم يكن انخفاضًا كبيرًا، لكنه كان مقلقًا. ولحسن الحظ، لم يصحب المقال الأكثر انتشارًا في هذا العام – مقالُ ستيوارت إيسترلينغ، نظرية ماركس للأزمات الاقتصادية – أيُّ إشكالات. ومع ذلك، أعترف أنَّ ترجمته كانت من أصعب الترجمات التي قمت بها، ولم يساعدني في ذلك عددُ كلماته المقارِب لعشرة آلاف كلمة.

أدرك أنّي أنا الذي اخترتُ المقال، ولا حقَّ لي بالتذمر في اختياراتي. بل لا أنكر أنّ الأمر كان أبعد عن الإشكال في الحقيقة، وإنما كان أقربَ إلى التحدي البغيض الممتع؛ بغيضٌ وأنا في خضمه، ممتعٌ حين الانتهاء منه ورؤية المنتج النهائي. كنتُ أعتقد أنَّ مقالَ ديفد هارفي المعنون الحق في المدينة سيكون أصعبَ منه، ولكن اتضح لي أنَّ ديفد هارفي دائمًا ما يعتمد لغةً بسيطة لإيصال أفكاره، مما يسهل ترجمتها.

بدلًا من إغلاقِ المدونة، قررتُ توسيعها، وعملت ابتداءً من نصف عام 2017 على ترجمة عددٍ من فيديوهات اليوتيوب. لم أنشر إلّا واحدًا منها نهاية العام، محاضرة سيلفيا فيديريتشي بعنوان النسوية ودمقرطة الحياة اليومية. كانت ترجمةُ الفيديوهات أسهل بكثيرٍ مما اعتقدت، وإنْ كنت ما أزال أجهل الجوانب التقنية من «حرق» ملف الترجمة في الفيديو، مما اضطرني إلى طلب مساعدة الأصحاب في ذلك. لربما تكون العملية أصعب مما أتصور، ولكن الأمر لم يبدو كذلك عَنْ بُعد.


بعد نشر محاضرة سيلفيا فيديريتشي، كنت أدرك تمامًا أنَّ المشروع بلغ نهايته. السبب الرئيس وراء ذلك هو أنني لم أعد راغبًا بالعمل عليه أو متفرّغًا لذلك حتى. هذه طبيعة المشاريع المتسندة على العمل الفردي، فهي تنمو بتفرغهم وتأفل بانشغالهم. هذا بالتحديد ما جرى لـ «ما العمل؟».

ظلَّت «ما العمل؟» حتى نهايتها – في الغالب – مشروعًا فرديًّا، أغلبُ مقالاته ترجمتها بنفسي، وراجعتُ بقيّة المقالات واحدةً واحدة لـ «ضمان الجودة». لست أقصد بذلك الاستخفاف بشتى أنواع المساعدة التي قدّمها لي الأصدقاء من تنبيه بأخطاء مطبعية أو استشارة ومساعدة في ترجمة عبارة أو كلمة معينة، أو بالجهود التي بذلتها المترجِمات والمترجِمون اللاتي عملن معي، وأشملُ هنا من ترجمـ/ـت مقالًا واحدًا ومن استمرّ/ت بالعمل معي لشهورٍ عدة على حدٍّ سواء.

ولكنَّ كل ذلك لا يغير حقيقةَ أن الغالبية العظمى من المقالات كانت نتاج عملِ فردٍ واحد. ولست أقول ذلك تباهيًا، بل حسرة. ولكن لربما لا حق لي في التحسر على ذلك، فمشروعٌ ضيّقُ الإطار كهذا تصعب المشاركة فيه بالتأكيد، لكن هذا لا يجعل الأمر سهلًا علي في كل الأحوال.

يصعب على صاحب أي مشروع أنْ يعلن نهايته، بل إنَّ الإقرار بأن المشروع وصل نهايته بحد ذاته أمرٌ صعب، ولكن الإقرار بذلك ضروريٌّ لمشروعٍ يزعم أنّه يستند على نظرةٍ مادية تاريخية، فعدم الاعتراف بِمَوتِ الميّت أبعد ما يكون عن المادية.

رغم هذه الصعوبة، أنا سعيد. سعيدٌ بهذه التجربة التي دامت قرابةَ أربعة سنوات، سعيدٌ بالصداقات التي كوّنتها عبر هذه المنصة، سعيدٌ بالنقاشاتِ التي خُضتها مع المُترْجِمات والمترجِمين اللاتي عملت معهن ومعهم وما أحدث ذلك من إثراءٍ لمعرفتي اللغوية والفكرية، سعيدٌ بتقديرٍ اكتسبته لجمالية اللغة، حلاوة جملةٍ صيغت بأفضل ما يمكن.

برغم إدراكي أن المشروع انتهى رسميًّا، آمل أنّه سيظل قادرًا على المشاركة في صنع التغيير. لذلك سأترك الأرشيف متاحًا هنا للقرّاء. ومع نهاية هذا المشروع، أترككم مع أغنية من مشروعٍ آخر ساعدتني في الأوقاتِ الصعبة.

م. ش.